الأربعاء، 5 أبريل 2017

حدود القوة البحرية البريطانية (الحلقة الأخيرة):


السفينة التجارية "الأخوات الثلاث"، قراصنة الريف
والسفن الحربية البريطانية (8):
تأليف: أندرو لامبرت
ترجمة: فريد المساوي



قرار 1856:
    رغم أن الريفيون تمكنوا من تجنب العقاب في 1849، فإن آفاق التطور الاقتصادي على المدى الطويل ونمو الرقابة البريطانية غير الرسمية كانت تعني أن أيامهم باتت معدودة، ومع ذلك لم يختاروا التراجع بهدوء عن أعمالهم. في 1850 عاد بالمرستون إلى التعبئة، وشجع الأميرالية على إرسال حملة تأديبية، ولكن كانت هناك الكثير من القضايا الضاغطة ولم تكن لدينا سفن احتياطية. في 5 أكتوبر 1851 اعترض الريفيون السفينة violet ذات الصاريتين قرب نقطة بطوية على خليج إعزانن، لقد نهبوا الحمولة المتكونة من الذرة وقتلوا بعض أفراد الطاقم، وافتدينا الآخرون. أرسل الجنرال غاردنر سفينة صاحبة الجلالة جانوس Janus، وهي سفينة مجدافية صغيرة، تحت قيادة الملازم ريتشارد باول، خرج باول من جبل طارق يوم 17 أكتوبر 1849، ووصل أمام ساحل الريف في اليوم التالي. خلال الساعة الثانية بعد زوال ذالك اليوم، وجد السفينة الإسبانية joven emelia قد استحوذوا عليها وجردوها من كل شيء وجروها إلى خندق عميق على بعد أربعة أميال غرب رأس المذاري الثلاث، من المرجح أنها كالا ترامونتانا.
       جدف باول مقتربا من الشاطئ وهو يطلق بعض الطلقات النارية الثقيلة لتشتيت السكان المحليين وتدمير بعض قواربهم، حيث بدا أن نيران مدافعه كانت فعالة بشكل جيد، وعاد في اليوم التالي لإتمام مهمته، في يوم 20 أكتوبر اكتشف باول هيكل السفينة violet المتفحم على الشاطئ على بعد ثلاثة أميال جهة الغرب، وهنا بادره الريفيون بإطلاق النار. رسا باول للمرة الثانية، رغبة منه في تدمير قواربهم، فقط لإثبات تفوقه عنهم بشكل كبير، لكن الفرقة التي نزلت أرغمت على العودة إلى القارب بثمانية جرحى من بينهم باول نفسه، ورغم تمكنه من تدمير مركبين للقراصنة إلا أنه رأى بنفسه الكثير منها مخبأة في الرمال أو موضوعة في الكهوف.
      رغم قلق السيد بالمرستون ورغبته في إرسال حملة تأديب واسعة، إلا أن السيد فرانسيس بارينغ لم يكن يضن أن باستطاعتهم فعل أي شيء، لقد كانت البحرية الملكية مجزأة أكثر من أي وقت مضى إلى مجموعات صغيرة جدا، وكانت هناك قضايا أكثر إلحاحا من الانتقام من العمليات القرصنية، خاصة بعد أن قصف الفرنسيين طنجة، مما يهدد باختلال توازن القوى في المضيق، فعندما أتى الأميرال باركر ببخارية قوية، فعل ذلك لدعم المصالح البريطانية مع محاولات فرنسا التوسع في الأقاليم المغربية.
       تمكن القبطان هنري جيفارد (1) Henry Giffard بقيادته باخرة البحرية الملكية dragon من استرجاع أربعة ناجين من طاقم السفينة violet بينما كان باول يتعافى من جروحه، بعد ذلك عادت dragon و Janus لمسح ساحل القراصنة، وكما كان متوقعا فقد أطلقت عليهما النيران.
في عام 1852، تأمل الأميرال باركر مشكلة الريف حين غادر المحطة للمرة الأخيرة: "أفترض أنه سيكون من الصعب هدم القرى، أو إحراق المحاصيل، دون الحاجة إلى وقت أطول من مدة حملة ليوم واحد على الساحل، كل محاولة قمنا بها ينبغي أن تكون بطريقة فعالة، وتنفيذها بكيفية أفضل قليلا قد يأتي بنتائج أفضل من شن هجوم على نطاق واسع، حيث أننا قد نتعرض لخسائر كبيرة في الأرواح، ولكنني أضن حقا أنهم يستحقون عقابا بطريقة ما"، وهذا من شأنه أن يمثل عملية كبرى بالنسبة لأي أسطول. في الحقيقة، وكما اعترف مؤرخ للبحرية الملكية متأخر عن العصر الفيكتوري: "لا يبدو أنه تم القيام بأية أعمال انتقامية هامة ضد المخالفين"، وبدلا من ذلك فضل وزير الخارجية اللورد ملمسبوري Lord Malmesbury(2) إجبار المغاربة على حل المشكلة، متبعا في ذلك الخط الذي وضعه صديقه بالمرستون، والمتمثل في التهديد بالتعامل مع المنطقة على اعتبار أنها مستقلة.
لم تستعمل بريطانيا قوة كبرى ضد الريفيين، لأن ذلك كان من شأنه أن يفتح الباب أمام قوى أخرى، كما لم يكن البريطانيون وحدهم المعنيون بهذه المشكلة. ففي سنة 1852، نهب الريفيون السفينة التجارية florat حين اضطرت للتقرب من الشاطئ، ولم تكن البحرية الألمانية قادرة على الرد آنذاك، ولاحقا في 7 غشت 1856، ظهر الأمير أدالبرت(3) بالباخرة الكبيرة ذات العجلة المجدفة Dantzig قرب رأس المذاري الثلاث وهو يقود حملة تأديبية تتكون من ستين رجلا، وفي اشتباك لمدة أربع ساعات ونصف تعلم درسا مؤلما، أحد أصدقاءه البريطانيين أدرك ذلك جيدا، كان أدالبرت واحدا من سبعة عشر جريحا، كما قتل سبعة آخرين. السفن الحربية لا تستطيع فرض الانضباط والاحترام على السكان المحليين، لأنها تفتقر إلى القوة البشرية والمعدات اللازمتين للتحكم في الشاطئ. قبل محاولة الأمير المتهورة، اتخذت الحكومة المغربية إجراءات حاسمة، فقد أرسل السلطان جيشا من ثمانية آلاف جندي بقيادة عبد الملك، الحاكم المحلي الصارم، إلى أراضي بويفار فأحرق قواربهم وقراهم، وفرض غرامات، وصادر الماشية، وأخذ رهائن لضمان حسن سيرتهم في المستقبل. كانت العملية، كدليل على سلطة الحكومة على المنطقة، تعني أنه على السلطان تحمل مسؤولية القرصنة الريفية. فطالبه الفرنسيون بسبعة آلاف دولار كتعويض على سفينتهم jeune dieppoise التي تعرضت للنهب هناك.
       في أبريل 1856، وفي مبادرة محلية، التقى القنصل جون دراموند هاي بشيوخ الريف على حدود مليلية، وأجرى معهم اجتماعا باللغة العربية، اللغة الثانية لكلا الطرفين (الريفيون يتكلمون إحدى اللهجات الأمازيغية)، رغم تبادل المصافحات، فإن جون دراموند هاي لم يحلم بأية أوهام، وكان ذلك حكمة، فقد استولوا على سفينة بريطانية أخرى hymen في 14 مايو من نفس السنة، وهذا ما جعل هاي يطالب بالتحرك، وعاد الجيش المغربي لإنزال المزيد من العقاب ببويفار، كما قدم السلطان التعويض عن السفينة hymen. وكانت تلك هي نهاية القرصنة الريفية الكبرى إلى وقت متأخر من القرن، حيث انهارت السلطة المركزية مرة أخرى وعاد الريفيون إلى تجارتهم القديمة (4). وحسب إقرار لمؤرخ بريطاني للإمبراطورية الشريفة من أواخر القرن التاسع عشر، فالريفيون كانوا سعداء باعتراض أي سفينة ضعيفة اضطرت للاقتراب بما فيه الكفاية، طالما أن الحكومات الأجنبية وكذا المغرب، يفضلون دفع الفديات ويقبلون بالتسويات النقدية فإنهم سيستمرون في عملهم. كل الذرائع في العالم حول الحفاظ على توازن القوى، وكذا تجنب تورط الأوربيين في الحرب، لن تفسرـ في نظر المغاربةـ سياسة الاستلقاء التي اتبعت مع هذا الرجل المريض في الغرب.

خلاصة:

      في الوقت الذي كانت فيه القرصنة الريفية مصدر إزعاج، كانت أية محاولة جادة من قبل البريطانيين لقمع القراصنة تهدد بجعل الفرنسيين يقومون بتحركات أكبر، التحركات التي كان من شأنها أن تعرض للخطر المصالح الإستراتيجية البريطانية في مضيق جبل طارق، وهيمنتها التجارية والسياسية التي كان من المنتظر أن تؤكدها المعاهدة المغربية البريطانية لعام 1856. الإمبراطورية البريطانية لا يمكن أن تحقق التحسن والهيمنة التجارية دون وجود حكومة مغربية مركزية قوية نسبيا تفرض النظام على المقاطعات، وتضمن إخراج معاهدة "الباب المفتوح" التجارية إلى حيز التنفيذ. قبل كل شيء، كانت تكلفة التعامل مع القراصنة بطريقة مباشرة جد باهظة، لفرض النظام على مجموعة، خطيرة ومسلحة جيدا، وتعاني من الفقر، ويزداد عنفها ضد المسيحيين نتيجة عقود من الحروب الاستعمارية ضد الإسبان، وليس من النادر أن تم تفقيرها وتجويعها... كان ذلك يتطلب حملة عسكرية كبيرة، مدعومة بسرب كبير من القوات البحرية. كانت لا بد أن تكون هناك تكلفة بشرية كبيرة، ومشاكل دبلوماسية خطيرة، ومن شأن مثل هذه العملية في الحقيقة، أن تكون غزوا واحتلالا، وإن كانت لها بعض المشروعية على المدى القصير. كان يمكن لبريطانيا أن تحظى ببعض التأييد من فرنسا لاحتلال ساحل الريف، مع تقديم وعد بالانسحاب لاحقا، وبعد كل شيء فقد كان ذلك بالضبط ما وعد به الفرنسيون بريطانيا حين اجتاحوا الجزائر سنة 1830. كان الرد المناسب هو إقامة دوريات منتظمة، وكان يمكن أن تكون غير مكلفة. لكن بدلا من ذلك كان رد بريطانيا على الهجمات هو إرسال سفن حربية لاستعادة البواخر المحتجزة ومعاقبة القراصنة على حوادث معينة بالذات. كان يتناسب مع المصالح البريطانية دعم وتشجيع الحكومة المغربية على التعامل مع القضية عن طريق استعادة السيطرة على سكان المناطق المضطربة، ذلك أن بعض تلك الهجمات القرصنية قد تكون تتم بتواطؤ مع شبكة تهريب تنشط بين إسبانيا والجزائر وجبل طارق والمغرب، وقد تقوم بأي تصرف غير لائق. ومن شأن وجود نظام جمركي مغربي فعال، مع تعميم رسوم منخفضة، ووجود شرطة كافية، أن تكون في نهاية المطاف أفضل حل لقرصنة الريف.
الهوامش:
1 ـ هنري جيفارد هو ابن الأميرال جون جيفارد، دخل القوات البحرية كضابط صف عام 1824، في 1831 ترقى إلى رتبة ملازم أول، شارك في عدة حملات وحروب بريطانية، شغل منصب قبطان في الكثير من سفن البحرية الملكية.
2 ـ اللورد ملمسبوري سياسي بريطاني من أسرة نبيلة شارك الكثير من أفرادها في الحكومة، شغل عدة مناصب وزارية، وعضوا في البرلمان، وفي الأميرالية، وفي الأخير قضى بقية حياه أسقفا.

3 ـ الأمير أدالبرت هو ابن عم الإمبراطور وليام حاكم بروسيا في أواسط القرن 19، حصل على رتبة عسكرية عالية، وتولى قيادة القوات البحرية الألمانية، هجم على الريف انتقاما لطاقم سفينة بلده florat التي اعترض طريقها الريفيون في إعزانن سنة 1852 وصادروا حمولتها وألحقوا بها خسائر فادحة حسب الصحافة الأوربية، وقد قتل أحد أفراد طاقمها وأصيب قبطانها، ولكن حملته على الريف كانت فاشلة، حيث عاد بعدد من القتلى والجرحى كما أصيب هو نفسه.
4 ـ يقصد هنا ظهور القرصنة من جديد في الريف في أواخر القرن التاسع عشر ولكن هذه المرة فقد ارتبطت بقبيلة بقوية وليس بويفار.


الثلاثاء، 4 أبريل 2017

حدود القوة البحرية البريطانية (الحلقة السابعة):


السفينة التجارية "الأخوات الثلاث"، قراصنة الريف
والسفن الحربية البريطانية (7):
تأليف: أندرو لامبرت
ترجمة: فريد المساوي


نهاية بعثة نابيير:      

      أعطى نابيير الإشارة في تاسع أبريل بعد وصوله إلى سبيتهيد spithead، أن سربه كان قد تفكك، متطلبات الاقتصاد وما يمليه المنطق السليم أغلقا فصلا من تاريخ القرصنة الريفية، الفرصة الوحيدة التي كانت فيها للقوات البحرية الملكية البريطانية في المنطقة قوة قادرة على معاقبة القراصنة، حرموا خلالها من الحصول على فرصة للتصرف، لقد أصبحت بريطانيا تفضل إيجاد حل دبلوماسي أو تجاري لمشكل القرصنة، وكانت نتائج ومخاطر اللجوء إلى هذه البدائل وخيمة جدا. مبررات هذه السياسة الجبانة ا تكمن في الساحل الريفي وليس حتى في الحكومة المغربية، كما أكد ذلك نابيير وباركر، إن معاقبة الريفيين تتطلب قوة برمائية كبيرة، على الأقل ألف جندي وستة أو ثمانية من السفن البخارية الحربية الكبيرة، كما أن العملية كانت تتطلب وقتا، وفي الظروف الراهنة فإن بريطانيا ببساطة لم يكن لديها الوقت أو السفن للقيام بالمهمة. المشهد الدولي أصبح معقدا وغير مستقر، لم يكن أحد يعلم كيف تصبح فرنسا في مرحلة ما بعد أورليان، أو إيطاليا ما بعد الثورة، في حين أن الضغط الروسي المتزايد على تركيا وجه التركيز إلى الشرق أكثر من أي وقت مضى، هذه العوامل أوضحت لماذا أرسل نابيير لمعالجة قضية أخرى في محطة السيد باركر، فبعيدا عن البحر الأبيض المتوسط واجهت بريطانيا العديد من المشاكل، هدد صراع شليسفيغ هولشتاين سنة 1848-1850 مصلحة حيوية أخرى لبريطانيا ألا و هي الحصول على البلطيق، بالمرستون هدد بإرسال سرب نابيير لرفع الحصار الدنماركي على الساحل الألماني.  إضافة إلى ذلك فإن الوضع الاقتصادي المتردي لبريطانيا أجبر الوزراء على خفض عدد رجال القوات البحرية إلى ثلاثة آلاف رجل وتعطيل سفن سرب نابيير بتخصيصها لمباشرة مثل هذه المشاكل، وعلى هذا النطاق الصغير. وكانت القرصنة تعتبر حقا أولوية، خاصة وأن المغرب قد سبق أن فسح الطريق في قضية التجارة، وتراجع التهديد الفرنسي مع سقوط أسرة أورليان.
      كانت سياسة بالمرستون على المدى الطويل ترمي إلى تعزيز سلطة الحكومة المغربية، وجعل السلطان يفرض النظام في الريف، والحفاظ على استقلالية بلده، ثم أخيرا الدخول الرسمي لبريطانيا معه في علاقات في المجال التجاري والمالي.
     حين كانت الإمبراطورية(1) عنصرا مهما في الاقتصاد البريطاني خلال القرن التاسع عشر، لم تستطع هذه الأخيرة الهيمنة أبدا، فقد استأثرت الإمبراطورية بما يقارب 25 في المائة من احتياجات السوق البريطانية في مختلف القطاعات. لقد كان القطاع الأكثر دينامكية في الاقتصاد البريطاني هو تصدير الأموال، بحلول عام 1890 تم تصدير ما يقارب مائة مليون جنيه إسترليني، أكثر هذا المبلغ تم استثماره خارج الإمبراطورية، وقد ارتبط هذا القطاع ارتباطا وثيقا بالخدمات المالية، ونظام الدعم التجاري لمدينة لندن. لقد أدى تفوق مدينة لندن في مجال التمويل العالمي إلى هيمنة بريطانيا في مجال الملاحة والشحن وما يرتبط بهما من خدمات، وقد انضم المغرب إلى هذا النظام في خمسينيات القرن التاسع عشر، لقد عرفنا الدليل على قيمة المغرب التجارية من خلال عرض قدم له بأن يخصص له فضاء في المعرض الكبير لسنة 1851، وقد رفض السلطان العرض آنذاك بأدب ولباقة، ومع ذلك، ففي غضون ثلاث سنوات، ومع التغييرات التي أحدثها المغرب في مجال الرسوم الجمركية، ومع محاولات السلطان التغلب على التعويضات المفروضة من طرف فرنسا سنة 1844، وكذا طموحات وزراءه ووكلائه إلى الثراء الشخصي، كل هذا أدى إلى المزيد من الشكاوي الواردة من التجار البريطانيين في جبل طارق، إن الواردات البريطانية انخفضت إلى النصف بسبب التغييرات الجمركية المغربية، من 300,000 جنيه عام 1848 إلى 145,000 عام 1850. ورغم الصلح المنعقد سنة 1850 فقد ظل المغرب على خرق المعاهدة بين الطرفين، في غشت 1853 رفض وزير الخارجية السيد جون راسل(2) قبول السفارة المغربية إلى أن يتم حل المشكلة، كان تهديد راسل الضمني هو الانسحاب وترك المغرب عرضة للأطماع الاستعمارية الفرنسية والإسبانية.
      موازاة مع الخلفية الداعمة ـ قوة بحرية هائلة كامنة في الأفق القريب ـ وضع جون دراموند هاي مشروعا لمعاهدة تجارية، في عام 1854، تم إدخال تعديلات جديدة على الرسوم الجمركية بما يرضي بريطانيا وفي المقابل حصل المغرب على اطمئنان إلى حد بعيد لحسن نوايا بريطانيا.
     عندما اندلعت حرب القرم سنة 1854، منع السلطان اقتراب السفن الحربية الروسية، بتحريض القراصنة عليها، وإعلان مكافئات لمن يظفر بها في الموانئ المغربية، ووافق على توريد ألف ثور إضافية برسوم تصدير منخفضة لتموين القوات البريطانية التي تمر من جبل طارق، ولم يجدد هذا الامتياز للجزائر الفرنسية. كان المغرب أيضا حلقة وصل مهمة في التجارة البريطانية مع إفريقيا جنوب الصحراء، رغم أن ذلك الدور كان في تراجع. على أي، فقد أعاق التجارة البريطانية علو قيمة الرسوم المفروضة محليا على البضائع الأساسية التي كانت تخرج من المغرب كالشمع مثلا، كما تم التغلب على العقبات بفضل الاعتماد على الوسطاء اليهود منذ أن عرفت وضعية اليهود المغاربة تحسنا مهما. وبعد تأخيرات طويلة، فإن اتفاقية جون دراموند هاي، وبعد تعديلات إيجابية، وقعت في 9 دجنبر 1856. تخلى المغرب عن الاحتكار والحواجز على الواردات، وشرع نسبة ثابتة وكحد أقصى على الصادرات هي 10 في المائة، هذه الشروط وفرت الكثير من الاستقرار والأمن للتجار والرأسماليين البريطانيين، بهذه الطريقة انضم المغرب بشكل غير رسمي إلى الإمبراطورية التجارية البريطانية، وبعد أشهر فقط صادر قراصنة الريف آخر سفينة بريطانية تم استهدافها.
يتبع...
الهوامش:
1 ـ يقصد هنا الإمبراطورية التجارية و ليس السياسية أي كل المناطق التي احتكرت بريطانيا الاتجار معها عن طريق المعاهدات أو غيرها.

2 ـ اللورد جون راسل سياسي بريطاني ولد سنة 1792، شغل منصب رئيس الوزراء مرتين، و يقال أن إنجازاته كانت محدودة وأنه تميز بضعف القيادة، و لكنه ساهم في العديد من الإصلاحات التشريعية الإيجابية، كما شغل منصب رئيس مجلس العموم، و فيما بعد وزير الداخلية ووزير الخارجية.

الاثنين، 3 أبريل 2017

حدود القوة البحرية البريطانية (الحلقة السادسة):


حدود القوة البحرية البريطانية،
السفينة التجارية "الأخوات الثلاث"، قراصنة الريف
والسفن الحربية البريطانية (6):
تأليف: أندرو لامبرت
ترجمة: فريد المساوي

خياري كل من نابيير وجون دراموند هاي:
كانت الأميرالية متفائلة: "أنت اتخذت القرار السليم في الامتناع عن القيام بأي عمل عدواني على الساحل الريفي"، كما وافق على ذلك السيد بالمرستون: "لقد تصرفت في هذه المسألة وفق قراراتك الجيدة المعتادة". ولكن في اليوم التالي انتقد مجلس الأميرالية قراره انتظار الريح الشرقية بدلا من استخدام السفن البخارية وسحب الأسطول في اتجاه المحيط الأطلسي، كما عبروا عن قلقهم ورغبتهم في عودة الأسطول إلى حال سبيله، كما اعترف دونداس: "ومن المطلوب جدا أنه ينبغي لنا إعادة جميع السفن قبل 31 مارس وإلا فإننا سوف نكون مزعجين كثيرا بقراراتنا المكلفة، وكذلك سيكون علينا الاقتصار على أربعين ألفا من الرجال ابتداء من ذلك اليوم".  وبعد تقييم الاحتمالات، أعاد نابيير السرب رغم أن استعماله له وافق مقتضيات مفاوضات ريدمان، كانت الأميرالية يائسة من التمكن من إعادة البوارج قبل نهاية مارس وإرسال السفن الصغيرة لتعويضها مؤقتا في المحطات الخارجية. قبيل مغادرته ناقش نابيير العمليات المستقبلية مع السيد جون دراموند هاي، مع التوصية على أن تكثر بوليفيموس من زياراتها التفقدية للساحل الريفي  ويمكن استبدالها بأية باخرة حديدية قوية أخرى.  
     كان لا يزال ينتظر رياحا شرقية ليغادر جبل طارق عندما أرسل حاكم مليلية  برقية في وقت متأخر يوم 26 فبراير جاء فيها أن قبائل الريف قبلت أن تدفع تعويضا عن سفينة "الأخوات الثلاث". مرة أخرى تبين أن حضور قوة كبيرة سرع العملية الدبلوماسية، نابيير لا يثق كثيرا في مثل هذه العروض، لكن بدا واضحا أن الريفيين جد قلقين، ولهذا قرر مناقشة المسألة مع السيد هاي في طنجة. لقد عرض الريفيون دفع تعويض قدره عشرون ألف دولار أمريكي عن طريق حاكم مليلية، إذا وافق السلطان، ولهذا طلب نابيير من جون دراموند هاي الحصول على موافقة السلطان، لكنه رفض بدعوى أنه ليست له صلاحية ذلك، كما أضاف أن اشتراطهم موافقة السلطان لم تكن سوى مسألة يهدفون منها إلى ربح الوقت، كان لنابيير رأي آخر لكنه اضطر لمغادرة البحر المتوسط تاركا مسألة الريف لجون دراموند هاي.
      لم يكن هذا ما يريد هاي سماعه، إنه كان يريد بقاء أسطول نابيير في جبل طارق ليوفر له النفوذ والهيمنة على السلطة المغربية، وفجأة أشاع معلومات جديدة عن القراصنة  مفادها أن محافظ المنطقة أخبره بتفاصيل عن أسطول القوارب المحلية، وعن مكان إخفاء الريفيين لآلياتهم، هذه المرة كان دور نابيير للاختبار، فقد خشي أن يكون هذا التواصل قد صمم لاستدراجه إلى فخ، لا يمكنه البقاء دون التفكير في الأمر بذكاء وواقعية، كان رد جون دراموند هاي هو الاحتجاج بالاشتباك الذي وقع بين باخرة اسبانية وبعض القوارب الريفية قرب الجزر الجعفرية، حيث قتل إحدى عشر من القراصنة الريفيين، وأضاف أن الريفيين كانوا دائما يبدون الرغبة في حفظ السلام، ولكنهم لم يوفوا أبدا بوعودهم، بويفار هم المسؤولون عن هذه الأعمال، وهم يملكون ما بين خمسة عشر إلى عشرين قاربا في وادي كرت (رأس بركات)(1)، والساحل كله يملك ما بين ثمانين و مائة قارب، أنهى هاي كلامه بإيجاز و عن طريق إبداء هذه الملاحظة: "لقد قلت المحاصيل هذه السنة بسبب قلة الماء" (2).
      أكد نابيير في تقريره الرسمي أنه كانت له الثقة أكثر من جون دراموند هاي بأن الريفيين يريدون دفع التعويض حقا، وكان يقصد أن القنصل، يهدف إلى التحكم في المفاوضات وتحسين العمل الدبلوماسي أكثر من العمل من أجل الدفع بالتجارة البريطانية، النقطة التي اشتغل عليها السيد روبرت ويلسون(3) خلال الشهر السابق. إذا كان السيد جون دراموند هاي يثق في سلطان المغرب، فإن نابيير لا يثق فيه، كان يعلم أن الحاكم والقنصل المغربي في جبل طارق متفقين على صفقة شراء كمية كبيرة من بارود البنادق مؤخرا، و"ربما يريدون أن يزجوا بي في فخ"، لقد استندت وجهة نظره على مصدر استخباراتي جديد، مهرب من جبل طارق كان معتقلا لدى القراصنة. أنهى نابيير علاقات العمل المرتبطة بهذه القضية التي تزداد توترا، بإعلانه لجون دراموند هاي أنه لن يقدم أية إشارة حول أية خيارات مستقبلية بشأن مسألة الريف، قائلا له: "كما كنت أنت ترفض التدخل". في اليوم التالي أي 16 مارس 1849 غادر نابيير جبل طارق متوجا إلى بريطانيا، لأن "السيد هاي لا يرى أنه من المناسب فتح اتصال مع السلطان، ولذلك فبقائي أكثر لن يكون مجديا، ولن أستمر أكثر في لعب دور سفير"، ولكن لم يكن هذا تهديد بالتجميد، فنابيير سبق أن وقف على مشكل دبلوماسي أكثر أهمية، الأزمة السورية في عام 1840 بما يرضي صديقه بالمرستون، لقد فهم نابيير الربط بين القوة والإكراه والدبلوماسية بالنسبة لأي كان، وأنه مع المزيد من الوقت والطقس المناسب سيستطيع إحداث تغيير في هذه القضية، بالنسبة للأحوال آنذاك فقد كانت هناك ضغوط اقتصادية، وكانت الظروف المناخية سيئة، وقد أقنع تقرير نابيير السيد بالمرستون أنه "إذا كانت المفاوضات ستفشل المناورات فسيكون من الأحسن تأجيلها إلى حين تمكننا من القيام بكل ما هو مفيد وضروري"، في اليوم نفسه حولت الأميرالية تلك الأفكار إلى أوامر: "أنا أطلعك على أن سادة بلدي يوافقون على الخطوات التي قررت، لكن هذا حتى تمر بضعة أشهر قبل أن يتم اتخاذ أية إجراءات انتقامية، إنهم يريدونك ألا تتأخر عودتك إلى إنجلترا، وإلى أن تكون هناك ضرورة لإيقاف فوري للمفاوضات".
        بعد التفكير، دعم بالمرستون قرار جون دراموند هاي بعدم السعي إلى قبول الحكومة وتأييدها عرض الريفيين دفع التعويضات، كان يرى هناك خيارين، إما تحميل السلطان المسؤولية وإلزامه بدفع التعويضات، أو معاقبة الريفيين دون الالتفات إلى السلطان، وفي ظل الظروف الراهنة فإن الخيار الأول لا يبدو أنه المناسب.
يتبع...
الهوامش:
1 ـ  هكذا جاءت في النص الأصلي وربما يقصد رأس هرك.
2 ـ إما كان يقصد بهذا الكلام أن الريفيين لن يستطيعوا الصمود والمواجهة في حالة مهاجمتهم، أو أن الجفاف سيحفز الريفيين على المزيد من الأعمال القرصنية، وفي كلتا الحالتين فإن قصده هو أنه ينبغي للقوات البريطانية البقاء أكثر بالقرب من المغرب (المترجم).
3 ـ روبرت توماس ويلسون سياسي بريطاني عاش ما بين 1777 و1842، اشتغل بالكثير من البلدان المنضوية تحت نفوذ الإمبراطورية البريطانية، كما دخل البرلمان كعضو لبرالي عن مقاطعة سوثورك من 1818 إلى 1831، وشغل منصب حاكم جبل طارق من 1842 حتى وفاته سنة 1849. 


الأحد، 2 أبريل 2017

حدود القوة البحرية البريطانية (الحلقة الخامسة):


السفينة التجارية "الأخوات الثلاث"، قراصنة الريف
والسفن الحربية البريطانية (5):
تأليف: أندرو لامبرت
ترجمة: فريد المساوي


حملة نابيير وقراصنة الريف:

      بعد حل المشكلة الأساسية، أي التنافس التجاري، رأى السيد نابيير أنه، رغم أن عودته إلى البورتسموث Portsmouth  أصبحت وشيكة، فإن بإمكانه التركيز على المشكلة الثانية، أي قرصنة الريفيين، و قد كانت مشكلة معقدة، حيث أن قراصنة الريف كثيرون، و مسلحون تسليحا جيدا، ويتميزون بالدهاء. حتى مع خبرته الواسعة في الحروب الشاطئية و العمليات البحرية، فإنه رأى أن حظه في النجاح كان ضئيلا. و اتفق مع السيد باركر على أن العملية تتطلب قوة كبيرة من البواخر والعسكر، وتمنى لو يمده الحاكم الجديد السيد روبرت غاردنر بمجموعة إضافية من المحاربين. إضافة إلى ذلك فقد كان الطقس سيئا جدا ومتقلبا، ولا يساعده على القيام بعمليات ساحلية فعالة، حتى المراسلات الأخيرة من الأميرالية لم يجد فيها ما يشجعه و يرفع من معنوياته، "إنهم يترقبون أن أذهب إلى ماديرا، والسيد دونداس قال: إننا سنكون في إنجلترا في أبريل"، ولم يشيروا و لو بكلمة إلى السيد ريدمان أو إلى الريفيين، و لهذا فقد أولى الاهتمام لمسألة الحصول على تأييد من وزارة الخارجية، وإن السيد بالمرستون كان سعيدا بأن يؤكد له: "لقد اتخذت في هذه المسألة القرار الجيد و المناسب".
      كل شيء يتوقف على الطقس، وما دام كان في انتظار رياح غربية خفيفة لتنفيذ عملياته على ساحل القراصنة، فقد ركب مساء السابع عشر من فبراير عام 1849 هو وخمسمائة جندي من الفوج 34 في صيدون، الفرقاطة ذات العجلة المجدفة المصممة خصيصا للحروب الساحلية، وجعل مشاة البحرية الملكية من البارجة سان فنسنت saint venecent في الطليعة، وجهز تجهيزا جيدا البخاريات سترومبولي Stromboli، غلادياتور  gladiator، وبوليفيموسpolyphemus ، إضافة إلى البخاريتان الحديديتان رينارد renard وبلومبرplomber ، وبتجهيز لوائه في صيدونSidon ، قاد نابيير سربه على الساعة الثامنة من ذاك المساء و انطلق قاصدا رأس المذاري الثلاث. ذهب السيد نابيير يحدوه الأمل و ليست لديه أية توقعات، و لكنه على استعداد للتصرف في حالة ما إذا تبينت له أية فرصة لمهاجمة القراصنة، وصل السرب إلى رأس المذاري الثلاث على الساعة الثانية بعد زوال اليوم التالي، ولكنه لم يجد أي شيء ليهاجمه: "إن الطريقة الوحيدة التي أراها مناسبة لمعاقبة هؤلاء الناس، هي النزول إلى البر في مواسم جني محاصيل الذرة وإشعال النيران فيها والاستيلاء على الماشية إن تم العثور عليها (حتى أكواخهم البسيطة لا تستحق أن تقصف)، ثم إعلامهم بسبب فعل ذلك بهم ... عندما ذهبت إلى بلاد الريف توقعت أن أجد شيئا ملموسا لأهاجمه، أ يعقل أن يكونوا قد علموا أننا قادمون من جبل طارق فأبعدوا قواربهم إلى البر؟ أنا لا أعرف بالضبط، وأين توجد مدنهم، أو حتى قراهم الكبيرة؟ هذا ما لا أعرفه أيضا، ولكننا نفترض أنها توجد أبعد قليلا داخل اليابسة".
        في الواقع، لقد نصحه أحدهم بالنزول إلى البر و إقامة معسكر هناك، و لكن نابيير كان خبيرا بعادات سكان الجبال من خلال تجربته في لبنان، ولم يكن ليتقبل أية مجازفة من هذا النوع، لقد كان واعيا جدا بمسؤوليته عن سلامة رجاله، و السفن التي تحت قيادته، وكذا سمعة بلاده، كانت للسيد نابيير الشجاعة الأخلاقية لمقاومة الإغراءات التي قد تسبب له المخاطر، رغم التجهيز الجيد للقوات البريطانية فإنها لم تقف على فرصة للسيطرة على الريفيين في هذه التضاريس الوعرة، كان من الأفضل أن لا يعرض نفسه لخطر الهزيمة، فالعواقب السياسية والأخلاقية لذلك ستكون لها نتائج محرجة للغاية.
يتبع...


السبت، 1 أبريل 2017

حدود القوة البحرية البريطانية (الحلقة الرابعة):


السفينة التجارية "الأخوات الثلاث"، قراصنة الريف
والسفن الحربية البريطانية (4):
تأليف: أندرو لامبرت
ترجمة: فريد المساوي

حملة نابيير لحل مشاكل التجارة:
كان وزير الخارجية، اللورد بالمرستون حريصا على تلقين الريفيين درسا، واستغل كون الأميرالية قد أمرت سرب الجنوب بالبحرية الملكية بتعزيز أسطول البحر المتوسط، وكرد فعل على التعزيزات الفرنسية، فإن بالمرستون، الذي كان قد وجه اللورد أوكلاند، اللورد الأول للأميرالية، لنشر السرب لدعم مطالبه في قضية الشركة التجارية البريطانية الإخوان ريدمان(1)، والآن مؤخرا أضاف مسألة القرصنة إلى برنامج البعثة. حادثة "الأخوات الثلاث" لم تؤدي إلا إلى تعقيد الوضع، فمشاكل التجارة يمكن حلها بضرب حصار على الموانئ الكبرى مثل موغادور (الصويرة الحديثة) على ساحل المحيط الأطلسي، وكذلك طنجة، أما قرصنة الريف فيلزمها تحرك محلي.
كان للأميرالية فهم جيد لهذا الساحل، وأوكلاند لم يكن متحمسا لشن عمليات هجومية، "إن موسم هذا العام ليس مناسبا للهجوم على موغادور، وساحل الريف نادرا ما يكون تحت حكم الإمبراطور ـ السلطان ـ، والعمليات هناك من المحتمل أن تكون خطيرة ودون فائدة، ولكن يمكن القيام بعمليات بالزوارق الخفيفة بهدف الإثبات للبرابرة، أن سواحلهم قابلة للغزو وإنزال العقاب"، كما أبلغ السيد أوكلاند قائد السرب الغربي، نائب الأميرال السيد تشارلز نابيير(2): "أولا يجب أن تسعى إلى اكتساح الساحل بالمراكب الخفيفة من تطوان إلى مليلية و تدمر جميع القوارب التي تصادفها، و أخشى مع ذلك، و بالنظر إلى طبيعة هذا الساحل، أن تكون العملية صعبة و خطيرة و مكلفة جدا، ثانيا يمكن أن تحاول ضرب حصار على موانئ الساحل الغربي، و لكن أخشى في هذا الموسم من السنة أنه من المستحيل القيام بالعملية بشكل فعال، ثالثا قد تفتت طنجة أو موغادور إلى قطع، لكن من شأن هذا أن يكون عنيفا جدا،  ومما لا ينبغي التفكير فيه كقضية ذات أولوية.
كان أوكلاند يفضل ممارسة الضغط من خلال إرسال قوة كبيرة إلى موغادور، لكن هذا لم يكن من شأنه أن يحل قضية الريف، لقد كانت أوامر المسؤول غريبة و غامضة، فقد سمحت لنابير أن يؤدب القراصنة، إن كان يعتقد أن ذلك ممكنا و الوسائل الموضوعة تحت تصرفه كافية، لقد قيدت سلطاته التقديرية بعناية محكومة بالضرورات السياسية الظرفية لتجنب الحرب و عدم ترك أية فرصة لقوى أخرى لتتصرف، هذا مع الإبقاء على رفع المعنويات و التأييد لقدرات نابيير، كصديق مند فترة طويلة و من أنصار بالمرستون، مبينا أن المهمة الغامضة نشأت في أصلها داخل وزارة الخارجية، الواقع أن بالمرستون كان قد أقنع نابيير جيدا بالانتظار حتى الربيع حيث الطقس أفضل، بدل الإسراع و المجازفة بإرسال بواخره الحربية.
في هذه الأثناء كان السرب في سبيتهيد Spithead محاصرا برياح الجنوب، رأى نابيير في ذلك فرصة لتعزيز سرب المتوسط بطلبة من القيادة العليا، والتي ستكون شاغرة قريبا، لقد كان افتتاحا للأسلوب المفضل لديه، و المتمثل في اتخاذ إجراءات حاسة و سريعة، وكانت هناك خطورة في الروتين وأساليب الانتظار والعمليات الطويلة الأمد، "آمل أن يتم السماح بالقيام بعمليات قصيرة مع الموريين(3) إن تمادوا في وقاحتهم ورفضوا دفع التعويضات، فالحصار هو عقاب بطيء في هذا الموسم من السنة، وهو عمل غير مضمون النتيجة". رغم اضطراره لكبح جماح الحماس لدى نابيير، حرص أوكلاند على أن يكون إيجابيا "أنا متفائل أنك تستطيع تحقيق الغرض مع المغاربة بالوسائل القوية، لكننا في البداية علينا استعمال وسائل لطيفة مدعومة بظهور قوي".
قام نابيير بسرعة بخطوته، وطلب الرسوم البيانية لطنجة وموغادور قصد استكمال التقارير الرسمية، وأوكلاند حذر من كون العمليات المستمرة والمستدامة على ساحل المحيط الأطلسي خطيرة جدا بين نونبر وأبريل، كما أن بالنسبة لساحل الريف، فالبخاريات وحدها التي بمقدورها الاقتراب منه ـ القادرة على دفع الخطر عن النازلين إلى البر ـ، و عرض بعض النقط الواضحة للاستهداف بالهجوم.
مع وصوله إلى لشبونة يوم 4 يناير 1849، افتتح نابيير الاتصالات مع جون دراموند هاي في طنجة، من خلال المعلومات المرسلة من قبل الأميرالية خلص إلى ما يلي: " يبدو لي من الأفضل ترك خط السفن الحربية في جبل طارق، و أخذ السفن الصغيرة و البحارة لتدمير كل القوارب على ساحل الريف ... أنا لم أحب كثيرا فكرة إقامة حصار على الساحل الغربي، لأن ذلك من شأنه أن ينبههم و يمنحهم الوقت للاستعداد لرد الهجوم". بدل المخاطرة بحصار طويل و ممل، كان بإمكان نابيير التجديف بباخرته القوية إلى جدران موغادور و تحطيمها بواسطة أسلحته، وطلب من جون دراموند هاي معلومات عن دفاعات طنجة. لم يكن هذا هو النهج الذي يحبذه جون دراموند هاي، فأبلغه أن السلطان قد يفسح المجال أمام استعمال مناسب للقوة.
من سوء حظ نابيير أن اللورد أوكلاند توفي فجأة قبل بداية السنة الجديدة، و ترك قيادة الأميرالية للورد الأول للقوات البحرية، نائب الأميرال السيد جيمس دونداس(4)، أميرال مكتب ذو تجربة محدودة في مجال الملاحة، عوض به في دور مركزي في سياسة الحزب اللبرالي. حركة أوكلاند الموجهة في صالح الاقتصاديات المهيمنة استمرت بعد وفاته دون الكثير من التفكير في عواقب على المدى الطويل. تم تخفيض ثلاثة آلاف رجل من تقديرات سرب نابيير، مما يفسر إلغاء انطلاق الحملة قبل نهاية مارس، لتتحول إلى حملة على ساحل الريف في ماي. لقد بدأ العد العكسي في 11 يناير حين استدعيت السفينة رودني، إحدى قطع البحرية الملكية للعودة إلى الميتروبول فورا لتسديد نفقات ترتبت عليها، وهذا طرح آنذاك مسألة حول نابيير و هي هل بإمكانه القيام بشيء قبل أن تتبخر قواته. تم تعيين السيد فرانسيس بارينغ(5) في منصب اللورد الأول في 16 يناير، لكنه لم يباشر عمله فعلا إلا بعد إعادة انتخابه في مقعده في مجلس العموم في حوالي السادس من فبراير، إلى هذه اللحظة كانت الأميرالية قد ظلت مكرسة لنوع من الروتين، ليس لأن نابيير طال انتظاره لعودة بارينغ فالرجلين سبق لهما خوض منافسة انتخابية في البورتسموث قبل خمسة عشرة سنة.
أبحر نابيير إلى جبل طارق مكتئبا لفقدان سيده أوكلاند في 18 يناير 1849، وصل يوم السابع و العشرين بعد رحلة مريرة عكست مزاجه العكر، البريد الموالي حمل إليه أخبار سيئة، لقد ألغت الأميرالية زيارته المبرمجة إلى سانتا كروز تينيريفي، موجهة له استدعاء للحضور إلى جزيرة ماديرا(6) ثم بعدها العودة إلى لشبونة من دون تأخير، كما جاءته رسالة خاصة من دونداس و قد كانت بمثابة ضربة، سيعطى الأميرال باركر جولة ثانية كقائد عام في المتوسط، و أضاف ما هو أسوأ: "أنت لن تقوم بأية محاولة ضد المغرب من دون المزيد من الأوامر، و أنا أعرف أن هذه هي رغبة السيد بارينغ والحكومة ". بارينغ، اللورد الأول الجديد، يبدو أنه سيواصل نهج سلفه الحذر و ليست له نية إعطاء الأوامر لنابيير بالتصرف، و كان أقل براعة، كما أن إعادة تعيين باركر كان شيئا ليس عاديا إلى حد بعيد، لكنه كان منطقيا تماما. ظل البحر المتوسط متوترا و باركر أبان عن حكمة ملحوظة في تصرفه. يوم الواحد و الثلاثين فتح نابيير مراسلة خاصة من بارينغ، و قد جاء فيها أن جون دراموند هاي سيستدعى إلى محفل في جبل طارق، و أنه خلال حضوره سيهيئون تصاميم حول عمليات في الريف والسواحل الأطلسية. و أرسل رسالة أخرى إلى بارينغ و بالمرستون يطلب القيادة بالمتوسط. التقى نابيير وجون دراموند هاي على متن حاملة لواء (flagship)، وبعد ذلك غادر دراموند هاي على  متن البخارية الملكية صيدون ليقدم الطلب النهائي إلى وزير الخارجية المغربي في العرائش قصد تسوية قضية ريدمان، و بهذا دق ناقوس الخطر بالموانئ المغربية. أثار نابيير بسعادة هذه المخاوف، و أبقى بتباه على بارجتين كانتا عائدتين إلى الميتروبول في عرض المتوسط، ليس فقط لأنه كان يعتزم التصرف فحضوره إلى جبل طارق عزز قناعته بأن حصارا فعالا للموانئ المغربية سيكون مستحيلا، وقال أنه بمجرد عودة صيدون من العرائش سيرى ما يمكن فعله ضد الريف. إلى حدود اللحظة كان قد أبقى على أوراقه بالقرب منه "لا أصدق أنه قد يعتقد وجود أي مخططات عنهم هنا، هذا أفضل بكثير"، لكن من الواضح أن الأميرالية كانت لها آراء أخرى، فيوم فاتح فبراير صدرت الأوامر لنابيير ليكون فورا على استعداد للمثول في سبيتهيد Spithead.
رغم كون الأميرالية لم تكن تهتم كثيرا بشؤون المغرب، فقد جلب نابيير لنفسه الاهتمام سريعا، فقد جلب له عرض التباهي بالقدرة السلاحية إذعان المغرب في غضون أسبوع واحد، قنصلهم وصل إلى جبل طارق على متن زورق في الرابع من فبراير، موافقا على عقد التزام بشأن مطالب ريدمان، و قد أوضح نابيير: "لقد بدا بوضوح أنه كان خائفا جدا، ووصول سفينة رودني، و جلسات التقديم التي عقدها بالمسرح لم يكونا كفيلين بتهدئته". في حرص على تحقيق تسوية سريعة، رفض نابيير محاولة حاكم جبل طارق المشاركة، وأرسل قارب إلى طنجة للحصول على رأي جون دراموند هاي، وقد وافقت له الأميرالية على احتجاز السفن في ظل الظروف الخاصة.
 التحول المفاجئ على ما يبدو في سياسة طنجة، هو تنامي مخاوف فرنسا، خشية أن تحتل بريطانيا الأراضي المغربية، خاصة ساحل الريف القريب من الجزائر، و كانت باريس قد حثت السلطان على التنازل. نابيير كان حريصا تماما على التسوية، فساحل المحيط الأطلسي في الشتاء لن يقدم إلا فرص قليلة قد تساعد على القيام بعمليات تأديبية. رغبة منه في التوضيح، نابيير قال لبارينغ إنه سيبعث باخرة أو ربما اثنتين إلى بريطانيا قصد التهديء و تبديد المخاوف من كون الحملات قد تكون مكلفة، "للقيام بالعملية بنجاح، يجب القيام بكل شيء بشكل صحيح و فعال، و بقوات جيدة، و يكون ذلك عمل واحد مستمر على جميع السواحل، إنهم مجموعة سيئة، و يستحقون أشد العقاب".
أجرى محادثات أخرى عن الريفيين مع دونداس "سمعت أنهم مجموعة مولعة بالحرب، وقناصين ماهرين وإذا ما احتجزوا سجناء فإنهم يقتلون المسنين ويستخدمون الشباب في الأشغال، إذن ليس أمامي خيار آخر غير تنفيذ هذه العملية، على الأقل حاكم جديد لجبل طارق قد عوض المقرف ويلسون".
في ذلك اليوم نفسه طلبت منه الأميرالية إرسال التصاميم و التعزيزات إلى السرب الذي يقوده باركر بالأسطول المتوسطي و يعود هو إلى الميتروبول مع بقية سربه، وضح له دونداس الأسباب في رسالة خاصة: " إنه لحد الآن هو القائد ... كما أننا حريصون على تخفيض أعدادنا من الرجال، وكذلك التخفيف من عدد السفن"، في يوم العاشر أعلن نابيير أن قضية ريدمان قد سويت، واعتذر لباركر في اليوم التالي لاحتجاز الأمير رجنت(7) دعما لدبلوماسية بلده. المغاربة قبلوا التحكيم إلى تاجرين من جبل طارق، اللذان خفضا فورا مطالب ريدمان من 17000 دولار أمريكي إلى 10000، منتقدان حساباته وأوراق طلبه. اعتقد نابيير أن المغاربة يعرفون التجار جيدا، وأنهم أجروا معهم الكثير من المعاملات، ومن المرجح حسب رأيه أن تحكيمهم سيكون لصالح الحكومة المغربية.
يتبع...
الهوامش:
1 ـ الإخوة ريدمان كانوا يملكون محلا بالجديدة يستعملونه كمستودع للسلع قبل تصديرها، فصودر منهم المحل من طرف المخزن فتدخلت القنصلية البريطانية بسبب ذلك، أنظر بوشعراء مصطفى، الاستيطان والحماية بالمغرب، ج 3، ص 992. 
2 ـ الجنرال تشارلز جيمس نابيير، ولد في  10 غشت 1782 و توفي في 29 غشت 1853، كان جنرالا في الإمبراطورية البريطانية والقائد العام للقوات المسلحة الجيش البريطاني في الهند، كان له دور بارز في قهر السند في ما يعرف الآن بباكستان، انضم إلى فوج المشاة الثالث و الثلاثين التابع للجيش البريطاني في 1794، قاد فوج من المشاة خلال الحرب في شبه الجزيرة الإيبيرية ضد نابليون بونابرت حيث أصيب إصابة خطيرة ولكنه أنقذ على قيد الحياة، ثم قبض عليه كأسير حرب من طرف الجيش الفرنسي، وقد تم منحه الميدالية الذهبية في الجيش بعد أن عاد إلى بريطانيا، في عام 1842، وهو في سن الستين، تم تعيينه على قيادة الجيش الهندي في بومباي و هذا ما قاده إلى إقليم السند، لغرض قمع تمرد مشايخ المسلمين الذين بقوا معادين للإمبراطورية البريطانية بعد الحرب الأنجلو أفغانية الأولى و انتهت الحملة بإخضاع السند و ضمها إلى الإمبراطورية. عين نابيير محافظا لمقاطعة بومباي. ولكنه بسبب صراع مع إدارة شركة الهند الشرقية البريطانية، تم عزله من منصبه وعاد إلى بريطانيا إلى أن تم إرساله مرة أخرى إلى الهند خلال ربيع عام 1849، بالإضافة إلى الهند قام بعدة حملات في مناطق أخرى ضمن المهام العسكرية البريطانية.
3 ـ وضعت لفظة الموريين هنا بدل المغاربة أو أية لفظة أخرى كمقابل لكلمة moors.
4 ـ عاش الأميرال جيمس دونداس ما بين 4 دجنبر 1785 و 3 أكتوبر 1862، كان ضابطا في البحرية الملكية، وشارك في الحروب النابليونية، ثم ترقى إلى رتبة قائد، كما شغل منصب عضو في البرلمان كنائب يميني لمقاطعة غرينتش، وأصبح اللورد الأول للبحرية الملكية خلال ولاية الوزير الأول راسل في يوليو 1847، تم تعيينه قائدا عاما للقوات المسلحة في منطقة البحر الأبيض المتوسط في عام 1852، وأدى كل العمليات البحرية في البحر الأسود بما في ذلك قصف سيفاستوبول في أكتوبر 1854 خلال حرب القرم.
5 ـ فرانسيس بارينغ سياسي بريطاني عضو في البرلمان عن بورتسموث مند عام 1826، و شغل مناصب وزارية عدة مرات، و رفض بعض الحقائب في فترات أخرى (المالية في حكومة راسل)، تولى منصب اللورد الأول للأميرالية مند يناير 1849، كان من المعارضين لحرب القرم.
6 ـ جزيرة ماديرا تقع في المحيط الأطلسي قبالة الساحل المغربي أبعد من جزر الكناري، اكتشفها البرتغاليون سنة 1419 واحتلوها، وتستمد اسمها من الخشب لوفرته فيها، كما تسمى أيضا جزيرة الزهور نظرا لمناخها المعتدل طوال السنة.
7 ـ ولي عهد الدنمارك في أوائل القرن التاسع عشر.