وثائق
تكشف جانب من تاريخ دوار الكوف بحوز تطوان (القرن19)
(أسرة
كوفية في مواجهة نائب القنصل الإيطالي)
يعتبر
دوار الكوف واحد من أقدم التجمعات السكانية بضواحي تطوان، وله تاريخ عريق ولكنه
تاريخ مشتت ويحتاج إلى مجهود كبير في الجمع والترميم، فالتاريخ المحلي للقبيلة أو
الدوار يمكن أن يلعب دورا مهما في إغناء التاريخ العام للبلاد أو "التاريخ
الوطني". ويعتبر دوار أو مدشر الكوف واحد من دواوير القسم الساحلي من قبيلة
حوز تطوان إلى جانب كل من القلالين، الملاليين، بني سالم، السرور، واد الليل،
العنصر، بلوازن، البيين، الكوف (وفيها الكوف السفلي والفوقي حاليا)، واد زرجون،
بوجميل، أكنان، الكدانة، عين ليين، وجبل زم زم. بينما يضم القسم الآخر من قبيلة
الحوز وهو الحوز الصديني كل من: سمسة، اللوزيين، الدشريين، بني عمران، فندلاوة،
صدينة، أواريروش، جعابق، العلاوية، الكدان، الريحانة، عجيبش، آكلا، ترانت، واد
آكلا(محمد داود، تاريخ تطوان 11، ص 18).
والوثائق
التي أقدمها في هذا المقال هي رسائل مخزنية من الأرشيف التاريخي لتطوان تتعلق
بقضية سرقة فرسين في ملك الحاج محمد الخطيب خلال الثمانينات من القرن 19، وكان
المتهمون في القضية أخوان من دوار الكوف، بل إن هذه الوثائق ـ وهنا الغرابة ـ تتهم
أسرتهم بأكملها بالتواطؤ على امتهان السرقة، وهو ما يثير الكثير من علامات
الاستفهام، هل ما حدث كانت سرقة بالفعل أم هو انتقام لأسباب أخرى؟ هذا السؤال يمكن
أن يطرح للنقاش ولكن المشكلة أن المصادر لا تسعف للكشف عن جواب آخر، وبالتالي تبقى
هذه الوثائق هي كل ما يتوفر في هذا المجال.
الوثيقة
الأولى: أرشيف تطوان (مح 58/20):
هذه
الوثيقة هي نسخة من رسالة جوابية من قائد طنجة السيد عبد الصادق بن أحمد إلى
الوزير المفوض لدولة إيطاليا بالمغرب بتاريخ 20 صفر عام 1306ه موافق 26 أكتوبر
1888، حول قضية سرقة كان اقترفها بعض من أهل الكوف دون تحديد هويتهم، في حق السيد
محمد الخطيب، حيث سرقوا منه فرسين وقاموا ببيعهما لرجل يسمى الصادق، وهو من دوار
"أدياز" التابع لقبيلة بني عروص، حيث يقول: "فاعلم أن الذين سرقوا
الفرستين من الكوف وكان العامل بتطوان قبض منهم واحد تحت يده فأهل الكوف المذكورين
يخلصون السيد محمد الخطيب متاعه، وإن كانوا باعوا ذلك لأحد في بني عروص فهما
يتابعون فيه"( مح58/20)... ولتوضيح هذه المسألة خصوصا فيما يتعلق بأطراف
الرسالة وعلاقتهما بالنازلة فإن تدخل المؤسسة الدبلوماسية الإيطالية كان سببه هو
كون السيد محمد الخطيب هو من محميي دولة إيطاليا، وقد شغل منصب نائب قنصل الدولة
الإيطالية بمدينة تطوان لسنوات عدة مند أن توصل من سفير إيطاليا بطنجة في 5 دجنبر
1884 بكتاب يسند فيه إليه النيابة عنه بتطوان(محمد داود، تاريخ تطوان 12، ص 331)،
أما فيما يخص الطرف الثاني قائد طنجة آنذاك وهو عبد الصادق بن أحمد الريفي وهو من
أسرة آل الريفي المعروفة لزمن طويل بتولي مناصب القواد والبشوات بتطوان ثم بطنجة،
فسبب تدخله في هذه المسألة هو كون المعنيين بهذه السرقة باعوا مسروقهما بدوار
أدياز وهو كان تابعا إداريا لأعمال طنجة، رغم أن هذا القائد كان يبدو وكأنه يريد
التملص من القضية وأنه يتدخل فقط إرضاءا لبعض الأطراف كما أن اللصوص لا يستقرون في
مكان واحد، إذ يقول في جوابه لمفوض إيطاليا: "والآن حيث كتبت لنا ها نحن نوجه
صاحبنا بقصد البحث عنهم مراعة لجانبك لأن السراق لا قرار لهم تارة يكونون في بني
عروص وتارة في غيرها"(مح58/20).
الوثيقة
الثانية: أرشيف تطوان (مح 58/21):
هي رسالة
من القائد عبد الصادق بن أحمد إلى نائب دولة إيطاليا بطنجة بتاريخ 27 صفر عام 1306ه موافق 2 نونبر 1888م، يخبره
فيها أنه فيما يتعلق بالذين سرقوا الفرسين، وهذه المرة ذكرهم بالإسم العائلي حيث
يقول: "فإن أولاد احميد الحوزية من الكوف الذين نهبوا فرسين اثنين للسيد محمد
الخطيب وقلت إنهم ببني اعروص في مدشر أدياز..."(مح 58/21)، يخبره أنه وجه
الخيل للبحث في قضيتهم واعترف أهل دوار أدياز بمعرفتهم ولكنهم رحلوا حين أحسوا
أنهم مبحوث عنهم وقد تم إلقاء القبض على أمهم وأختهم بتطوان، "فلتعلم أني وجهت
الخيل وراءهم وأجابوا آل أدياز أنهم كانوا عندهم حقا ولما بلغهم الخبر أن أمهم
وأختهم قبضوا بتطوان فروا من عندهم ولم يقفوا لهم أثر والسارق ليس له قرار"،
كما أرسل له رسالة آل مدشر أدياز في الموضوع ليطالعها، ويتضح من الرسالة أن القائد
كان يريد أن ينفي عن نفسه أية مسؤولية في القضية، حيث تابع كلامه بأن "العهدة
في هؤلاء الحوزية على عاملهم بتطوان فطالبه في ذلك وهو يتحقق معي هل بإيالتي أم
لا"، وحتى لا يفهم من كلامه أنه يتهرب ولا يريد التعاون في القضية ختم
الرسالة بقوله"ولا نخفي عليك حقيقة الأمر".
الوثيقة
الثالثة: أرشيف تطوان (مح 73/33):
هي رسالة
جوابية من عامل تطوان السيد محمد بن أحمد الخضر إلى نائب السلطان بطنجة الحاج محمد
بن العربي الطريس يوم 9 ربيع الأول عام 1306هـ موافق 13 نونبر 1888م في الموضوع
نفسه، وهذه الرسالة جاءت جوابا على رسالة نائب السلطان له بعد أن اجتمع هذا الأخير
مع نائب إيطاليا وعامل طنجة وقرروا بيع أمتعة السارقين إن وجدت لتسديد ثمن المسروق
لصاحبه، وقد جاء في الرسالة: "وافانا كتابك بأن أولاد احميد من مدشر الكوف
نهبوا فرستين للسيد محمد الخطيب وباعوهما للصديق العروصي وتردد الكلام بينك وبين
نائب الطليان وعامل طنجة واتفق رأيكم على بيع أمتعة الفعال التي بمدشرهم ويؤدى من
قيمته ثمن الفرستين ولهم أن يرجعوا على الصادق..."(مح 73/33)، كما أن عامل
تطوان كما يبدو من الوثيقة وجهت إليه مجموعة من الأسئلة في الموضوع من قبيل هل
يملكون ما يمكن بيعه، وهل يوجدون ببني عروص أم بنواحي تطوان، وكيف باعوا الفرسين
للعروصي المذكور... وكل هذا "لتنحسم مادة القضية" كما جاء في الوثيقة.
ففيما
يتعلق بعرض أمتعتهم للبيع كان جواب عامل تطوان مخيبا للأمل، إذ أنه بعد أن بحث في
مسألة ما لهم من أملاك وجد أنه لا يوجد شيء باسمهم حتى يتم بيعه وأن "لهم
دارا مرهونة بيد الطيب الزواق في ستة وعشرين ريالا أدوا بها سرقة أخرى سرقوها
قديما جدا وهي تساوي الآن 50 ريالا وغريسة على قاعة الحبس يساوي نصفهم الذي لهم 15
ريالا وليس إلا، ولا يفي ذلك بقيمة الفرستين".
أما
ما وصله عن طريق عامل طنجة أن عامل تطوان قبض أمهم وأختهم، فإنه يوضح أنه قبض على
أمهم وأخيهم وليس أختهم، ولكن القبض على أخيهم كان قبل هذه النازلة نظرا لكثرة ما
اقترفه من السرقات والجرائم، أما أمهم فتم القبض عليها لتواطؤها معهم وإخفاء
أخبارهم عن مسؤولي المخزن وكذلك عن عامة الناس، حيث جاء في الرسالة ما يلي: "قبضنا
على أخيهم كان قبل الواقعة لما تعدد منه من الجرائم وتركناه بالسجن راحة للمسلمين
منه ومن قبيح فعله وعلى أمهم لأنها المعينة لهم والمخبرة لهم بدسائس المسلمين
وعندها يأوون حين يأتون من بني عروص خفية لنهز الفرصة في أموال الناس". أما
عن مسألة مكان وجودهم فقد أكد له أن "قرارهم لا زال ببني عروص"، ومسألة
كيفية بيعهم الفرسين للصديق العروصي فإنها لا تهم ولن تفيد في القضية.
وفي
الأخير:
نلاحظ
أن هذه الوثائق جعلت من هؤلاء المتهمين في هذه القضية سراقا وأن أخ آخر لهم كان
بالسجن قبلهم بسبب كثرة سرقاته، وأن أمهم متواطئة ومتفقة معهم على امتهان
اللصوصية، وهذا ما لا يمكن أن يصدق بسهولة لأن هذا ليس من شيم ولا تقاليد جبالة
وخاصة منهم سكان البوادي، وحتى إن وجد شخص سارق فهي تكون حالة معزولة واستثنائية
وتكون أعماله المقترفة مرفوضة من طرف العائلة وساكنة المدشر وقد يبادرون باتخاذ
الإجراءات العقابية قبل المسؤولين المخزنيين.
بالنسبة
للإطار التاريخي الذي حدثت فيه هذه النازلة فهي مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب في
أواخر القرن التاسع عشر، حيث عرفت الدولة الضعف على شتى المستويات وكثرت الحمايات
القنصلية، حيث كان أغلب الذين يدخلون في حمايات الدول الأجنبية هم الذين يودون
خدمة مصالحهم الشخصية، وحماية أملاكهم وعقاراتهم من تجار وإقطاعيين، وما دام أولئك
المحميين لم يكن بوسع الدولة محاكمتهم وحدها من طرف القضاء المغربي بل تقدم بهم
شكايات إلى الدول الحامية لهم، فإن الكثير منهم كانوا يخلقون الفوضى ويدعون تعرضهم
للاعتداءات والسرقات وكانت قنصلياتهم تمارس ضغوطاتها على الدولة للحصول على
التعويضات. في حين أن أغلب المغربة الفقراء الذين كانوا في الأصل رافضون لنظام
الحماية القنصلية يعيشون حياة عسيرة، من جراء الفقر وتوالي سنوات الجفاف والمجاعات
واكتساح الجراد لأراضيهم وانتشار الأوبئة.. أضف إلى ذلك مشكل تسلط المحميين،
فهؤلاء الإقطاعيين الذين كانوا يملكون في المدن كل أسباب الرفاهية من تجارات
ومناصب وعقارات كانوا كثيرا ما يخرجون أيضا إلى البوادي لامتلاك أراضي شاسعة بطرق
ملتوية ولا شرعية ومزاحمة الفلاحين في الأراضي والمراعي، ولذلك كثيرا ما كان يدخل
معهم الفلاحون في صراعات غير متكافئة، أما المخزن الذي كان بسبب ضعفه أداة طيعة في
يد القوى الأوربية الطامعة فلم يكن بودة سوى اعتبار الرافضين للحماية القنصلية
فاسدين والذين يدخلون في صراعات من الأجانب ومحمييهم فتانين.
إذن
فموضوع هذه الوثائق في نظري لا زال يحتاج إلى الكثير من البحث والتنقيب، وأمام
غياب المصادر الموضوعية أو المتنوعة في هذا الشأن فيمكن اللجوء إلى الرواية
الشفوية والذاكرة الجماعية لأهل المنطقة، إن كانت لا تزال تحتفظ ببعض المعلومات
حول هذه الفترات، وأتمنى أن يفتح هذا المقال شهية البحث والتقصي للمثقفين
والباحثين وخاصة من أهل المنطقة لمواصلة النبش في هذه القضية علها تتضح أكثر وتفند
مزاعم الوثائق الرسمية في هذا المجال.
صور
الوثائق المعتمدة:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق