حين حوكم " البربري " أمام باب الجنة
بقلم: فريد المساوي
في بداية الثلاثينات حين كان الحديث
الأكثر تداولا في المغرب من قبل النخبة المثقفة هو المتعلق بموضوع ظهير 16 ماي
1930 حول تنظيم المحاكم العرفية في المناطق ذات العادات و التقاليد الأمازيغية و
الذي أطلق عليه ( الظهير البربري )، و الذي نعلم أنه ليس للأمازيغ يد فيه و لا في
صياغته حتى ينسب إليهم أولا، ثم رغم أن هذا الظهير لم يأت بجديد ذات أهمية بل جاء
لإقرار أمور كانت في المغرب سارية مند القدم دون أن تثير تحفظ أحد، ثم نعلم كيف
استغلت الحركة ( الوطنية ) هذا الظهير لتعلن عن نفسها و تخرج إلى العلن و كيف استغلت
المشاعر الدينية بالخروج للتنديد بالظهير من أبواب المساجد مرددة أشعار اللطيف.
في هذه الأثناء و ما بعدها، و مع ذيع صوت
الحركة في المجتمع و انتشار الصحافة و امتلاك ( الوطنيين ) للكثير من المنابر صار
موضوع الظهير المذكور و التنديد به رمزا للوطنية، لكن المشكلة الكبرى ليست في
التنديد بالظهير بل في رد الفعل الذي اختارته الحركة على هذا الظهير الذي لم يكن
لأحد من المغاربة الجرأة للدفاع عنه، فقد كان رد الفعل هو التنكر و الإقصاء التام
لكل ما هو أمازيغي، و ساد خطاب تمجيد العرق العربي و ثقافته و تقديسه و إعلاء شأنه، وفي المقابل فإذا ما تم
الحديث عن ( البربري )، فإما أن يكون جزء من العنصر العربي و خادم أو تابع له و
إلا فهو يخدم أهداف الظهير البربري و بالتالي لا وطني و كافر من أهل جهنم.
من بين الكتابات التي قرأتها في هذا
المجال، مقالة طريفة نشرت في مجلة المغرب عدد 15 بتاريخ دجنبر 1933 تحت عنوان (
أبحث عن بربري )، مقالة صاغها كاتبها في قالب استثنائي فهي عبارة عن حكاية حلم رآه
الكاتب في المنام حيث رأى كأن القيامة قامت ووجد الكاتب نفسه هناك أمام باب الجنة
في المهمة نفسها التي كان يشغلها من قبل أي كصحفي يريد تغطية الأحداث في أسرع وقت
ممكن ليبعث بها إلى مدير المجلة السيد محمد الصالح ميسة الذي طالما اهتم بالقضية (
البربرية ) لأن ما رآه في القيامة له علاقة بالموضوع.
رأى الكاتب في حلمه ( رضوان ) الذي لم يوضح
من يكون بالضبط، و لكن يبدو أنه أحد الملائكة، رآه واقفا أمام باب الجنة "
يسبح لله و يقدسه بصوت يملأ الفضاء عظمة و إجلالا "، و الناس يستأذنونه
بالدخول فيسألهم من يكونون أولا و بعد ذلك يأذن لهم أو يرفض، حيث جاءه رجل قال له:
أنا مسلم فقال له رضوان: إن الدين عند الله الإسلام تفضل، و جاءه ثاني قال: أنا
نصراني فقال له: ادخل بسلام إن الله يحب الذين يحبون ابن مريم عليه السلام ، ثم
جاءه ثالث و قال: أنا يهودي فقال له: أنت من أبناء موسى كليم الله تفضل، هنا تحدث
الكاتب عن الصهيونية حيث قال ربما رضوان لم تصله الأخبار الأخيرة ليعلم أنه ليس كل
اليهود يستحقون الجنة. و الغريب أن هذه الجنة التي رآها كاتبنا في حلمه فيها متسع
للجميع إلا البربري، فحين أراد رضوان إغلاق الباب بينما رجل رابع أراد أن يهم
بالدخول قال له: من أنت، فأجابه: أنا بربري، أجابه رضوان: " بربري... كلمة لا
أعرفها و لا أجد فيها شيئا من لسان الجزيرة ، اذهب عني فالناس هنا لا يتكلمون إلا
بالعربية و هي اللغة الرسمية بهاته الدار"، و بعد محاولات الرجل إقناعه
بالإذن له بالدخول باعتباره أيضا من أبناء آدم، كتب رضوان كلمة "بربري"
على ورقة بردي بقلم من ذهب و قال له: " انتظر هنا حتى أذهب إلى آدم و أسأله
عن رهطك "، و بعد قليل عاد و قال للرجل: " إن آدم عليه السلام لا يعرف
له نسلا يسمى بربر".
و مع محاولات الرجل الدفاع عن نفسه، اجتمع
حوله جمهور كبير عرف منهم الكاتب حماد الراوية و الشاعر الأندلسي خلف بن فرج السميرس،
و الفرزدق و أبا العتاهية وعمرو بن أبي ربيعة وجماعة من مؤرخي العرب و النسابين
كالطبري و الكلبي و المسعودي و البكري و غيرهم كثيرون. يبدو أن الشخصيات التي
اختارها كاتبنا ليراها في حلمه المزعوم هي الشخصيات التاريخية التي عرفت بالتطرق
لموضوع ( البربر ) أو كانت لهم مواقف منهم بطريقة أو بأخرى، أو من النسابين
المعروفين بالإلمام بأنساب البشر و فروعهم، و كان الهدف من احتشادهم هو الإدلاء
بشهاداتهم و ما بحوزتهم من أساطير الأولين حول رهط البربر و أصولهم فيما يشبه (
محاكمة )، فإن كانوا يرتبطون بالمشرق، حسب ما نستشفه من المقالة، فهم من أهل الجنة
و بالتالي سيسمح للرجل بالدخول، و إن لم تكن لهم أية صلة بمن ( يملكون مفاتيح
الجنة ) فلن يدخلها هذا البربري.
بدأ الشاعر الأندلسي السميرس بأبياته
المعروفة التي يتصور فيها آدم يطلق حواء بسبب ما قيل بأن البربر ينتسبون إليه، حيث
قال:
رأيت آدم في نومي فقلت لــه.................أبـــا البرية إن الناس قد
حكمــوا
أن البرابر نسل منك قال إذن.................حواء طالق إن كان الذي زعموا
فرد عليه صاحب كتاب " الجمان في أخبار
الزمان ": لا لا إن البربر من أبناء آدم خلافا لما زعمت، و هم من بني حام و
قد تنازعوا مع بني سام فانتصر بني سام عليهم و انهزم بنو حام إلى بلاد المغرب و
تناسلوا فيه و اتصلت شعوبهم من أرض مصر إلى آخر المغرب و تخوم السودان و مع ذلك
بقي عدد منهم في فلسطين حتى زمن داود... إلى أن يقول: حتى ضاقت منهم تلك البلاد و
امتلأت بهم الجبال و الكهوف و الرمال و تدين كل منهم بما شاء من الأديان الفاسدة
... إلى أن جاء الإسلام فأسلموا أجمعين.. قاطعه الطبري: " إن البرابر أخلاط
من كنعان و العماليق و غيرهم فلما قتل داود جالوت تفرقوا في البلدان "...
هنا انضم البعض إلى رأي هذا و البعض الآخر
إلى رأي ذاك، ووقع الخلاف و تعالت الأصوات... وفي هذه اللحظة كانت الزبانية مارة
أمامهم تسوق جماعة من الناس إلى جهنم منهم ك... و ف... و غيرهم كثير مكبلين
بالأغلال و على أكتافهم الصلبان، و لما سمعوا حوار تلك الجماعة بدأوا يصيحون بصوت
واحد: " كذبتم كذبتم البربر إخوة الكول ( الغاليين ) جاءوا إلى إفريقيا من
أوربا و هم أقرب إلينا صورة، و هنا أراد الكاتب أن يوضح أن البربري الذي يسلم بما
قال به الأوربيون بأن الأمازيغ قد ترتبط سلالتهم بالأوربيين أو لا ينتمون إلى
الأصول المشرقية هم الذين لا ينتسبون إلى آدم و لا يعرفهم و بالتالي هم لا يمكن أن
يدخلون الجنة، و لكنه يطمئن القراء في الأخير بأن هؤلاء البربر غير موجودين، بل هم
مجرد إنتاج الخيال الأوربي، بل إن البربري الموجود هو المقر بالانتساب إلى المشرق
و بالتالي إلى العروبة، حسب منطق كاتبنا، و الراضي بإقبار هويته التي لا تعني شيئا
و ليست ذات قيمة من أجل الذوبان في الوجود العربي الذي سيبدو كبيرا من الخليج إلى
المحيط، و هذا البربري سيعترف به آدم و يقبل به الملك رضوان و سيدخل الجنة، حيث قال
الكاتب في الأخير: " أعتقد أن البربري الذي لم أجده أنا في الآخرة التي هي
دار الحق، لن تجدوه أنتم في هذه الدار".
وهذا ما حدث فعلا أمام باب الجنة في حلم
كاتبنا المبارك " فخرج الناس لمقابلة البربري، و دوي الفضاء بالحمد و
التسبيح، و قصفت المدافع، و علت زغردة الحور على الأسوار...". هذا النوع من
الكتابات كانت تهدف بالأساس إلى خلق عقدة نقص لدى الشباب الذين ترعرعوا ليجدوا
نفسهم في مناطق تتحدث بالأمازيغية، لتجعلهم ينظرون إلى هويتهم الثقافية على أساس
أنها لا تعني شيئا إلا إذا جعلت تابعة للعربية ( لغة الجنة ) أو اعتبارها فرع مشوه
منها، و الإقرار بالأصول المشرقية دون هوادة، ذلك أن المعروف أن مسألة أصول
الأمازيغ ترد فيها ثلاث نظريات أساسية المشرقية و الأوربية و المحلية الشمال
إفريقية، لكن هذه النظريات، خاصة الأوربية و المشرقية فيهما معا الكثير من
المبالغة و التأويلات المغرضة، لاستغلالها سياسيا من طرف ذوي النزعات الاحتوائية، و
كما نرى هنا فصاحبنا وصل إلى حد تصور جنة لا يمكن أن يلجها إلا من أقر بالارتباط
به عرقيا و ثقافيا و حضاريا و بالتالي الاتفاق معه في مشروعه السياسي و الحضاري،
نظرا لارتباط المشروع الفكري للحركة ( الوطنية ) المغربية بالفكر البعثي القومي
العربي ارتباطا وثيقا، و ارتكاز نشاطها على أمور من بينها التعريب بشتى الوسائل،
حتى لو اقتضى الأمر إعادة إنتاج أساطير قديمة أكل الدهر عليها و شرب و ربطها
بالدين بطريقة في منتهى الخبث و الوقاحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق