وثيقة تاريخية: شكاية نخبة من أهل الحسيمة من "حكرة" الباشا سليمان الخطابي سنة 1946

وثيقة تاريخية: شكاية نخبة من أهل الحسيمة من "حكرة" الباشا سليمان الخطابي سنة 1946

فريد المساوي



من الوثائق المهمة المتعلقة بتاريخ الريف خلال فترة الحماية، شكاية تقدمت بها نخبة من أهل الحسيمة في شهر دجنبر سنة 1946 إلى المندوب السامي لإسبانيا بمنطقة حمايتها بالمغرب الجنرال دون خوسي إنريكي باريلا إكلسياس، حيث يشتكي فيها هؤلاء من ظلم واستبداد وتجبر  باشا المدينة السيد سليمان الخطابي، الذي تجاوز بتصرفاته كل القوانين حسب ما يفهم من الشكاية، وهذه الوثيقة التي توجد ضمن أرشيف الجنرال باريلا تحت رقم 93 ـ 35، لها أهمية تاريخية كبرى من عدة نواحي، ففضلا عن كونها تقدم لنا صورة عن علاقة المواطنين، وخاصة النخبة المثقفة، بالسلطة بمدينة الحسيمة (بيا سانخورخو) خلال فترة الأربعينيات من القرن العشرين، فإنها تبين لنا أيضا مستوى الوعي لدى تلك النخبة التي باتت تلجأ إلى وسيلة الاحتجاج بالعرائض أو الشكايات المذيلة بالتوقيعات، ويلاحظ في  الشكاية سلامة اللغة وسلاسة الأسلوب، كما تقدم لنا الوثيقة معلومات، ولو قليلة، عن تفاعل المندوب السامي مع المجاعة التي كانت قد مر بها الريف مند مدة لا تتجاوز السنتين، وعن سياسته تجاه الريف بصفة عامة.
لم يكن موقعي الشكاية من عامة الناس، أو من المقاومين للإدارة النافرين منها، ولا من المتمردين على الوجود الإسباني بالريف الذين، حتى وإن لم تعد تتوفر لهم شروط المقاومة، فإنهم على الأقل يجدون الحرج في أي تعامل مع الإسبان إلا في حالة الضرورة، بل إن هؤلاء هم نخبة مدنية مثقفة طبعت علاقتها بالإدارة، وصارت تؤمن بالمشروع (الإصلاحي) الإسباني بالمنطقة، ولها مصالح تسعى لحمايتها، أي كما جاء في الوثيقة «نخبة من رجال الريف المخلصين الذين يكنون في أعماق نفوسهم الود الصادق والولاء التام للدولة الإسبانية المحترمة ... التي لم تضمر لهذه المنطقة وأبناءها إلا الخير والتعاون الصادقين في سائر الأزمات في عهد الحماية». وعليه فلا عجب أن تبتدئ الشكاية بالكثير من المدح للسيد باريلا الذي اعتبرته «المثل الأعلى للممثل الإسباني بالديار المغربية، الذي يأخذ بيد أبناء المنطقة نحو السعادة والرفاهية»، والذي قدم البراهين على ذلك بعطفه على الشعب الريفي والتخفيف عنه فيما أصابه من مسغبة في تلك السنوات، كما استحضروا خطابا ألقاه أثناء زيارة له إلى المنطقة الشرقية عبر فيه عن حبه للريفيين واستعداده لتنفيذ كل ما هو ضروري لخدمة مصالح الريف عامة.
بعد هذه المقدمات ينتقل المشتكين إلى موضوع الشكوى الذي هو الباشا سليمان بن محمد الخطابي الذي كان مند أن عين باشا على مدينة بيا سانخورخو قبل عشر سنوات وهو مثال الشدة والجبروت في كل أعمالة التي يقوم بها، وكان «نموذج الرجل الفظ الغليظ القلب» لأنه كان يسرع إلى التشفي والانتقام ضاربا بالقوانين عرض الحائط، كما وصفوه بأنه «ساقط الهمة»، وأن سلوكه يضر بمصلحة سكان المدينة بل وبمصلحة الدولة الحامية نفسها، ولذلك فقد استنكر المشتكون أشد الاستنكار ما يقوم به الباشا من أعمال الهدم والتخريب، «محتجين عليه أكبر الاحتجاج من جميع تصرفاته الشاذة، وأحكامه الغريبة، من ظلم ونفي وتشريد، وإهانة وشتم أعراض وهتك حرمات... وضرب وسط الشارع، وتعريض بالأسر الشريفة للمذلة والمهانة، واستهداف لشخصيات العلم والأدب بما تشمئز منه النفوس الإنسانية وتقشعر له جلود بني آدم وحواء».
كما اتهموا الباشا أيضا باستخدام الغوغاء وصعاليك الطرق لمواجهة خصومه وتدبير المؤامرات ضدهم، وأنه يرمي بالفسق رجال القضاء والدين والعدالة، ويفرض على الأساتذة أن يحيوه تحية عسكرية، كما نفى شبان من المدينة لاشتراكهم في مؤسسة كان الغرض منها، حسب الشكاية، هو تمتين الروابط الريفية الإسبانية.
خلاصة الكلام، تقول الشكاية، «فإن باشا مدينتنا جمع من الأوصاف الذميمة ما يعجز القلم عن حصره، وبلغ في الأعمال الوحشية ما لا يجوز لرجل طاغوت أن يبلغه في العصور الخالية، عصر الظلمة والجهالة والهمجية، فما بالك بالقرن العشرين قرن النمو والمدنية والعرفان». ولذلك فإن المشتكين طالبوا باسمهم وباسم سكان المدينة وأحوازها بإسقاط ذلك الرجل الطاغية السيئ السيرة، الذي «ضرب الرقم القياسي للملأ على أنه عديم الأهلية لما استند إليه من المهام الحكومية والمخزنية، وأعطى دليلا واضحا في إفساد السمعة الإنسانية الكبرى بهذه المنطقة»، كما طلبوا من المندوب السامي أن يجعل المسألة جديرة بالاهتمام، لأنها من المساءل التي تتطلب الإنجاز والسرعة في ذلك حتى لا يتم استغلال ضررها، مؤكدين أنه «لا مسؤولية عنا بعد التبليغ والإعذار». 
وختمت الشكاية بعبارات التحية والاحترام ل (صاحب السعادة) المندوب السامي، وبتثبيت تاريخ التحرير  17 دجنبر 1946 ومقابله بالتاريخ الهجري، ومكان التحرير «بيا سان خورخو الريف الوسطى»، وفي آخر الشكاية أسماء المشتكين وصفاتهم وعددهم أحد عشر وهم: محمد بن الحاج علي العبدلاوي، محمد بن الحاج أحمد المسناوي، محمد المسناوي، حادي بن عمر، عمر بن محمد السكاكي، محمد محمد الدهري، الحاج أحمد بن عمر أشهبار الأجديري، محمد محمد بوجبار، حمدي المفضل، محمد بن حدو، وشعيب بن عيسى. وهؤلاء المشتكين قضاة وأساتذة وتجار، وهذا يعني بداية تشكل وتبلور طبقة وسطى أو برجوازية حضرية، إن صح التعبير، بالمجتمع الحسيمي، لها طموح لمجتمع ديموقراطي، ولها مصالح تتوق إلى حمايتها، وترفض أن تظل خاضعة لسلطة عقلية تقليدية شبه إقطاعية كالتي يسير بها القائد سليمان الخطابي المجتمع والمدينة، كما نلاحظ من الأسماء العائلية أن هؤلاء لا ينتمون جميعا إلى المدينة بل منهم من يمثلون القرى والمراكز الأخرى بالمنطقة مثل العبدلاوي، الأجديري، الدهري أسرة معروفة من بني حذيفة ... مما قد يعني أنها تمثيليات عن تلك المراكز، وإن صح ذلك فمعناه أن الموقعون يمثلون طبقة أوسع وأعرض بدأت تظهر في المجتمع الريفي آنذاك.
تعتبر هذه الوثيقة واحدة من الوثائق القليلة التي تتعلق بالريف في هذه الفترة من التاريخ والتي نجت من الضياع، حيث أن فترة الحماية الإسبانية رغم حداثتها فإن وثائقها غابت في ظروف غامضة وبشكل يثير الاستغراب.
ملاحظة:
 العبارات الموضوعة بين المزدوجتين منقولة من الوثيقة كما هي حرفيا




ليست هناك تعليقات: